الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون {وإنّا فوقهم قاهرون} [الأعراف: 127].ولا يفهم من ذلك جهة هي في علوّ كما قد يتوهّم، فلا تعدّ هذه الآية من المتشابهات.والعباد: هم المخلوقون من العقلاء، فلا يقال للدوابّ عباد الله، وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصّه بالمخلوقات، وخصّ العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك.ومعنى القهر فوق العباد أنّه خالق ما لا يدخل تحت قُدرهم بحيث يوجدُ ما لا يريدون وجوده كالموت، ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء، بحيث إنّ كلّ أحد يجد في نفسه أمورًا يستطيع فعلها وأمورًا لا يستطيع فعلها وأمورًا يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة، كالمشي لمن خَدِرت رجله؛ فيعلم كلّ أحد أنّ الله هو خالق القُدر والاستطاعات لأنّه قد يمنعها، ولأنّه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر، ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة.وقد خلق الله العناصر والقوى وسلّط بعضها على بعض فلا يستطيع المدافعة إلاّ ما خوّلها الله.والحكيم: المحكم المتقن للمصنوعات، فعيل بمعنى مفعل، وقد تقدّم في قوله: {فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم} في سورة [البقرة: 209] وفي مواضع كثيرة.والخبير: مبالغة في اسم الفاعل من (خَبَر) المتعدّي، بمعنى (علم)، يقال: خبر الأمر، إذا علمه وجرّبه.وقد قيل: إنّه مشتقّ من الخَبر لأنّ الشيء إذا علم أمكن الإخبار به. اهـ.
فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه، وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد.وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] أنه قال: لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم، والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} [الزمر: 1].و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] و{بَل رَّفَعَهُ الله} [النساء: 158] إليه.و{تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم: «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» كثيرة جدًا، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسمعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله تعالى يقول: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] وعرشه فوق سبع سموات فقال: قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل.وأيد القول بالفوقية أيضًا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجًا عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفًا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلًا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيًا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعًا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل لاسيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلولا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضًا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولًا: فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة.وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين.وأما ثانيًا: فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلًا لا يسمى قبلة أصلًا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلًا، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد.نعم سمع عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوًا كبيرًا.وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال: الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم.وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائل ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضًا تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرًا، على أن في ذلك تنقيضًا لله تعالى شأنه ففي المثل السائر: نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجًا على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار مَا} [يوسف: 39] وقوله تعالى: {الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] {والله خَيْرٌ وأبقى} [طه: 73] فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضًا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيًا ولا إثباتًا لئلا يثبتوا معنى فاسدًا أو ينفوا معنى صحيحًا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه.
|